الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و بعد،
يقول عبد الرزاق في مصنفه
2612 :
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: " كَانَ يَفْتَتِحُ بِـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] "، وَيَقُولُ: «آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَرَكَهَا النَّاسُ».
و قال عبد الرزاق في " مصنفه 2619 ":
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: " نَسِيَ النَّاسُ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]، وَهَذَا التَّكْبِيرَ ".
و قال ابن خزيمة في " مختصر
المختصر " :
" باب ذكر الدليل على أن أنسا إنما أراد بقوله
: لم أسمع أحدا منهم يقرأ : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) . أي لم أسمع أحدا منهم يقرأ
جهرا ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، وأنهم كانوا يسرون ( بسم الله الرحمن الرحيم ) في
الصلاة ، لا كما توهم من لم يشتغل بطلب العلم من مظانه و طلب الرئاسة قبل تعلم العلم.
495 - أخبرنا
أبو طاهر، نا أبو بكر، نا سلم بن جنادة القرشي، نا وكيع، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس
قال : " صَلَّيْتُ خَلْفُ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي
بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ فَلَمْ يَجْهَرُوا بِ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
). " اهـ
و هذا إسناده صحيح، و فيه أنهم كانوا يسرون بالبسملة.
و مما يدل على أن البسملة من
الفاتحة - يقينا - ما خرجه الدارقطني (118) من طريق أبي بكر الحنفي قال:ثم لقيت نوحا فحدثني عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن
أبي هريرة:
" إِذَا قَرَأْتم الحَمْدُ ِللهِ فَاقْرَؤُا بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِنَّهَا أُمُّ القُرْآنِ، وَ أُمُّ الكِتاَبِ وَ السَّبْعُ المَتاَنِي، وَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِحْدَاهَا". و لم يرفعه.
و هذا صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه.
يقول الحافظ ابن حجر في " تلخيص الحبير ج 1 / ص 232 - 233 " :
" هذا الحديث رجاله ثقات، وصحح غير واحد من الأئمة وقفه، وأعله ابن القطان بهذا التردد، وتكلم فيه ابن الجوزي من أجل عبد الحميد بن جعفر فإن فيه مقالا، ولكن متابعة نوح له مما تقويه وإن كان نوح وقفه، لكنه في حكم المرفوع إذ لا مدخل للاجتهاد في عد آي القرآن." اهـ
و قول ابن حجر قوي جدا فلا مدخل للاجتهاد في عد آي القرآن.
و قد يستشكل البعض قائلا،
"سورة
واحدة آية تقرأ سرا و الباقي جهرا !، أليس هذا من التناقض ؟ "
فيقال: إذا سلمت للأدلة، و أنه
قد صح أن البسملة من الفاتحة كما دل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه، و صح أنها تقرأ
سرا كما في حديث أنس رضي الله عنه، فلا إشكال حينئذ ( وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ).
و اعلم أن العبد و هو واقف بين
يدي ربه مستعد للدخول عليه، فلابد له من الاستئذان، لا أن يدخل مباشرة !
ألا ترى أنّ آحاد الناس إذا
أراد الدخول على ملك من ملوك الدنيا أو حتى وزير استأذن و أخذ الموعد و هيأ نفسه و
تهيأ للموعد. فالله أحق أن يتهيأ له و أن يتزين له جل و علا و أن يستأذن منه سبحانه
و تعالى.
و لذلك كان الإلتفات في الصلاة
بعد التكبير مذموما،
يقول ابن القيم في " الوابل
الصيب ":
" و مثل من يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه، مثل
رجل قد استدعاه السلطان، فأوقفه بين يديه، و أقبل يناديه و يخاطبه، و هو في خلال ذلك
يتلتفت عن السلطان يمينا و شمالا، أو قد انصرف قلبه عن السلطان فلا يفهم ما يخاطبه
به؛ لأن قلبه ليس حاضرا معه، فما ظن هذا الرجل أن يفعل به السلطان ؟!، أفليس أقل المراتب
في حقه أن ينصرف من بين يديه ممقوتا مبعدا و قد أسقطه من عينيه ؟!، فهذا المصلي لا
يستوي و الحاضر القلب، المقبل على الله تعالى في صلاته، الذي قد أشعر قلبه عظمة من
هو واقف بين يديه، فامتلأ قلبه من هيبته، و ذلت عنقه له، و استحيى من ربه تعالى أن
يقبل على غيره، أو يلتفت عنه...". اهـ
و حديث " قسمت الصلاة بيني
و بين عبدي نصفين " يُشير إلى أن المخاطبة تبدأ بقول العبد " الحمد لله رب
العالمين " فيقول الله " حمدني عبدي ". فدل على أن ما قبل ذلك تهيأ
للدخول على الملك جل و عز. فناسب أن يكون سرا لا جهرا.
فإن صح أن يقال أن الصلاة :
- استئذان، ثم بعد ذلك
- نصف لله
- و نصف للعبد
و لهذا تصح الصلاة بالفاتحة
فقط!.
فالعبد و هو واقف بين يدي ربه العظيم، يتدرج شيئا فشيئا، فيبدأ أول ما يبدأ بالاستئذان، ثم يثني عليه جل و علا بألوهيته و ربوبيته و بأسمائه و صفاته فكأنه اقترب و حضر بين يدي ربه فناسب تحول الكلام من الغيبة إلى المخاطبة. ثم يطلب العبد الهداية إلى صراط الله المستقيم الذي هو أعظم المطالب، إذ لا صراط يوصل إليه غيره.
قال عبد الرزاق في مصنفه 2609 :
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَخْبَرَهُ قَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87]، أُمُّ الْقُرْآنِ، وَقَرَأْتُهَا عَلَى سَعِيدٍ كَمَا قَرَأْتُهَا عَلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] الْآيَةُ السَّابِعَةُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «قَدْ أَخْرَجَهَا اللَّهُ لَكُمْ فَمَا أَخْرَجَهَا لِأَحَدٍ قَبْلَكُمْ».
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: " قَرَأَهَا عَلَيْنَا ابْنُ جُرَيْجٍ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] آيَةً، {الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] آيَةً، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] آيَةً، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} آيَةً، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] آيَةً، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] آيَةً، {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] إِلَى آخِرِهَا ".
فيخشى على من ترك البسملة أن لا تقبل صلاته.
و الله تعالى أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق