الجمعة، 6 يونيو 2014

مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ بِدَعِ المُتَكَلِّمِينَ مِنَ الجَهْمِيَّةْ وَ غَيْرِهِمْ

الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله، و بعد



فإن المُناظر الجهول لأهل البدع، يتكلف لنصرة دينه (بزعمه) تكلفا يؤدي به إلى الإحداث و جحد جملة من المسلمات مما جاء به رسول رب البريات. فلا لدينه نصر و لا لأعدائه كسر. و الله المستعان المسؤول أن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.


يقول شيخ الإسلام ابن تيمية كما في " التسعينية ص 232 ":
" و من أعظم أسباب بدع المتكلمين من الجهمية و غيرهم، قصورهم في مناظرة الكفار و المشركين، فإنهم يناظرونهم، و يحاجونهم، بغير الحق و العدل لينصروا الإسلام، زعموا بذلك، فيستطيل عليهم أولئك، لما فيهم من الجهل و الظلم، و يحاجونهم بممانعات و معارضات، فيحتاجون حينئذ إلى جحد طائفة من الحق الذي جاء به الرسول، و الظلم و العدوان لإخوانهم المؤمنين بما استظهر عليهم أولئك المشركون، فصار قولهم مشتملا على إيمان و كفر، و هدى و ضلال، و رشد و غي، و جمع بين النقيضين، و صاروا مخالفين للكفار و المؤمنين، كالذين يقاتلون الكفار و المؤمنين، و مثلهم في ذلك مثل من فرط في طاعة الله و طاعة رسوله من ملوك النواحي و الأطراف، حتى تسلط عليهم العدو، تحقيقا لقوله ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ) -[آل عمران 155]. يقاتلون قتالا مشتملا على معصية الله من الغدر و المثلة و الغلول و العدوان، حتى احتاجوا في مقاتلة ذلك العدو إلى العدوان على إخوانهم المؤمنين، و الاستيلاء على نفوسهم، و أموالهم، و بلادهم، و صاروا يقاتلون إخوانهم المؤمنين بنوع مما كانوا يقاتلون به المشركين، و ربما رأو قتال المسلمين أوكد، و بهذا وصف النبي صلى الله عليه و سلم الخوارج حيث قال: " يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَ يَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ ".

و هذا موجود في سيرة كثير من ملوك الأعاجم و غيرهم، وكثير من أهل البدع، و أهل الفجور، فحال أهل الأيدي و القتال، يشبه حال أهل الألسنة و الجدال. 

و هكذا ذكر العلماء مبدأ حال جهم، فقال الإمام أحمد في (الرد على الزنادقة و الجهمية) :
" و كذلك الجهم و شيعته، دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن و الحديث، فضلوا و أضلوا بكلامهم بشرا كثيرا، فكان مما بلغنا من أمر الجهم ـ عدو الله ـ أنه كان من أهل خراسان، من أهل ترمذ، و كان صاحب خصومات و كلام، و كان أكثر كلامه في الله تبارك و تعالى، فلقي ناسا من المشركين يقال لهم: السمنية فعرفوا الجهم، فقالوا له: نكلمك، فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، و إن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له:
ألست تزعم أن لك إلها ؟ قال الجهم نعم.
قالوا له: فهل رأيت إلهك ؟ قال: لا.
فقالوا له: هل سمعت كلامه؟ قال: لا.
قالوا: فشممت له رائحة ؟ قال: لا.
قالوا: فوجدت له حسا؟ قال: لا.
قالوا: فوجدت له مجسا؟ قال: لا.
قالوا: فما يدريك أنه إله؟

فتحير الجهم، فلم يدر من يعبد أربعين يوما، ثم إنه استدرك حجةً من جنس حجة الزنادقة من النصارى، و ذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هي من روح الله من ذات الله، و إذا أراد الله أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه، فيأمر و ينهى عن ما شاء، و هو روح غائب عن الأبصار.

فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمني:
ألست تزعم أن فيك روحا ؟ فقال: نعم.
قال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا.
قال: فسمعت كلامه؟ قال: لا.
قال: فهل وجدت له حسا؟ قال: لا.
قال: فكذلك الله لا يرى له وجه، و لا يسمع له صوت و لا يشم له رائحة، و هو غائب عن الأبصار، و لا يكون في مكان دون مكان. قال: وجدت ثلاث آيات من القرآن من المتشابه قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )، ( وَ هُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَ فِي الأَرْضِ ) و ( لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ).

فبنى أصل كلامه كله على هؤلاء الآيات، و تأول القرآن على غير تأويله، و كَذَّبَ بأحدايث رسول الله صلى الله عليه و سلم و زعم أن مَنْ وصف مِنَ الله شيئا مما وصف الله به نفسه في كتابه، أوحدث عنه رسوله صلى الله عليه وسلم كان كافرا، و كان من المشبهة، فأضل بكلامه بشرا كثيرا، و تبعه على قوله رجالا من أصحاب أبي حنيفة، و أصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة، و وضع دين الجهمية " اهـ


من يتدبر هذا الكلام يظهر له أن قول " لا أدري " من الفقه 

فقد خرج البخاري في صحيحه قال :
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ، يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،‏.‏ قَالَ وَسَمِعْتُ أَخَاهُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ:
قَالَ عُمَرُ رضى الله عنه يَوْمًا لأَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَ تَرَوْنَ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ ‏(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ‏).
قَالُوا اللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏
فَغَضِبَ عُمَرُ فَقَالَ قُولُوا نَعْلَمُ أَوْ لاَ نَعْلَمُ‏.‏
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي نَفْسِي مِنْهَا شَىْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏
قَالَ عُمَرُ يَا ابْنَ أَخِي قُلْ وَلاَ تَحْقِرْ نَفْسَكَ‏.‏
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ضُرِبَتْ مَثَلاً لِعَمَلٍ‏.‏
قَالَ عُمَرُ أَىُّ عَمَلٍ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَمَلٍ‏.‏
قَالَ عُمَرُ لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ.



و قال ابن سعد في الطبقات 9190 :

أَخْبَرَنَا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، قَالَ : " مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ مِنْ قَوْلِ لا أَدْرِي مِنْ أَيُّوبَ وَيُونُسَ ، وَأَمَّا ابْنُ عَوْنٍ فَكَانَ شَيْئًا عَجَبًا " .


و اليوم صارت هذه الكلمة عيبا عند البعض، حتى ترى أنفه يحمر من شدة ما يتكلف. 




نسأل الله السلامة و العافية، و أن يحبب إلينا قول " لاَ أَدْرِي " و أن لا نخاصم مبتدعا و أن لا نجالسا مُحْدِثاً و أن لا نتكلم في دين الله تكلفا. قال جلَّ و علا ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) - [الأعراف 33]

فتأمل كيف جعل الله تعالى القول عليه بغير علم فوق الشرك به.


هذا و صل اللهم على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق