الحمد
لله و الصلاة و السلام على رسول الله، و بعد
فإن
المُناظر الجهول لأهل البدع، يتكلف لنصرة دينه (بزعمه) تكلفا يؤدي به إلى الإحداث
و جحد جملة من المسلمات مما جاء به رسول رب البريات. فلا لدينه نصر و لا لأعدائه
كسر. و الله المستعان المسؤول أن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
يقول شيخ
الإسلام ابن تيمية كما في " التسعينية ص 232 ":
"
و من أعظم أسباب بدع المتكلمين من الجهمية و غيرهم، قصورهم في مناظرة الكفار و
المشركين، فإنهم يناظرونهم، و يحاجونهم، بغير الحق و العدل لينصروا الإسلام، زعموا
بذلك، فيستطيل عليهم أولئك، لما فيهم من الجهل و الظلم، و يحاجونهم بممانعات و
معارضات، فيحتاجون حينئذ إلى جحد طائفة من الحق الذي جاء به الرسول، و الظلم و
العدوان لإخوانهم المؤمنين بما استظهر عليهم أولئك المشركون، فصار قولهم مشتملا
على إيمان و كفر، و هدى و ضلال، و رشد و غي، و جمع بين النقيضين، و صاروا مخالفين
للكفار و المؤمنين، كالذين يقاتلون الكفار و المؤمنين، و مثلهم في ذلك مثل من فرط
في طاعة الله و طاعة رسوله من ملوك النواحي و الأطراف، حتى تسلط عليهم العدو،
تحقيقا لقوله ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى
الجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا )
-[آل عمران 155]. يقاتلون قتالا مشتملا على معصية الله من الغدر و المثلة و الغلول
و العدوان، حتى احتاجوا في مقاتلة ذلك العدو إلى العدوان على إخوانهم المؤمنين، و
الاستيلاء على نفوسهم، و أموالهم، و بلادهم، و صاروا يقاتلون إخوانهم المؤمنين
بنوع مما كانوا يقاتلون به المشركين، و ربما رأو قتال المسلمين أوكد، و بهذا وصف
النبي صلى الله عليه و سلم الخوارج حيث قال: " يَقْتُلُونَ أَهْلَ
الإِسْلاَمِ وَ يَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ ".
و
هذا موجود في سيرة كثير من ملوك الأعاجم و غيرهم، وكثير من أهل البدع، و أهل
الفجور، فحال أهل الأيدي و القتال، يشبه حال أهل الألسنة و الجدال.
و
هكذا ذكر العلماء مبدأ حال جهم، فقال الإمام أحمد في (الرد
على الزنادقة و الجهمية) :
"
و كذلك الجهم و شيعته، دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن و الحديث، فضلوا و أضلوا
بكلامهم بشرا كثيرا، فكان مما بلغنا من أمر الجهم ـ عدو الله ـ أنه كان من أهل
خراسان، من أهل ترمذ، و كان صاحب خصومات و كلام، و كان أكثر كلامه في الله تبارك و
تعالى، فلقي ناسا من المشركين يقال لهم: السمنية فعرفوا الجهم، فقالوا له: نكلمك،
فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، و إن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، فكان مما
كلموا به الجهم أن قالوا له:
ألست
تزعم أن لك إلها ؟ قال الجهم نعم.
قالوا
له: فهل رأيت إلهك ؟ قال: لا.
فقالوا
له: هل سمعت كلامه؟ قال: لا.
قالوا:
فشممت له رائحة ؟ قال: لا.
قالوا:
فوجدت له حسا؟ قال: لا.
قالوا:
فوجدت له مجسا؟ قال: لا.
قالوا:
فما يدريك أنه إله؟
فتحير
الجهم، فلم يدر من يعبد أربعين يوما، ثم إنه استدرك حجةً من جنس حجة الزنادقة من
النصارى، و ذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هي من روح الله من
ذات الله، و إذا أراد الله أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه،
فيأمر و ينهى عن ما شاء، و هو روح غائب عن الأبصار.
فاستدرك
الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمني:
ألست
تزعم أن فيك روحا ؟ فقال: نعم.
قال:
فهل رأيت روحك؟ قال: لا.
قال:
فسمعت كلامه؟ قال: لا.
قال:
فهل وجدت له حسا؟ قال: لا.
قال:
فكذلك الله لا يرى له وجه، و لا يسمع له صوت و لا يشم له رائحة، و هو غائب عن
الأبصار، و لا يكون في مكان دون مكان. قال: وجدت ثلاث آيات من القرآن من المتشابه
قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )، ( وَ هُوَ اللهُ فِي
السَّمَاوَاتِ وَ فِي الأَرْضِ ) و ( لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَ
هُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ).
فبنى
أصل كلامه كله على هؤلاء الآيات، و تأول القرآن على غير تأويله، و كَذَّبَ بأحدايث
رسول الله صلى الله عليه و سلم و زعم أن مَنْ وصف مِنَ الله شيئا مما وصف الله به
نفسه في كتابه، أوحدث عنه رسوله صلى الله عليه وسلم كان كافرا، و كان من المشبهة،
فأضل بكلامه بشرا كثيرا، و تبعه على قوله رجالا من أصحاب أبي حنيفة، و أصحاب عمرو
بن عبيد بالبصرة، و وضع دين الجهمية " اهـ
من يتدبر هذا الكلام يظهر له أن قول " لا أدري " من الفقه
فقد خرج البخاري في صحيحه
قال :
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ، يُحَدِّثُ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ،. قَالَ وَسَمِعْتُ أَخَاهُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ،
يُحَدِّثُ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ:
قَالَ عُمَرُ رضى الله عنه يَوْمًا لأَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَ تَرَوْنَ هَذِهِ الآيَةَ
نَزَلَتْ (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ).
قَالُوا اللَّهُ
أَعْلَمُ.
فَغَضِبَ عُمَرُ فَقَالَ قُولُوا نَعْلَمُ أَوْ لاَ نَعْلَمُ.
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي نَفْسِي مِنْهَا شَىْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ عُمَرُ يَا ابْنَ أَخِي قُلْ وَلاَ تَحْقِرْ نَفْسَكَ.
قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ ضُرِبَتْ مَثَلاً لِعَمَلٍ.
قَالَ عُمَرُ أَىُّ عَمَلٍ
قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ لِعَمَلٍ.
قَالَ عُمَرُ لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي
حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ.
و قال ابن سعد في الطبقات 9190 :
أَخْبَرَنَا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، قَالَ : " مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ مِنْ قَوْلِ لا أَدْرِي مِنْ أَيُّوبَ وَيُونُسَ ، وَأَمَّا ابْنُ عَوْنٍ فَكَانَ شَيْئًا عَجَبًا " .
و اليوم صارت هذه الكلمة عيبا عند البعض، حتى ترى أنفه يحمر من شدة ما يتكلف.
نسأل
الله السلامة و العافية، و أن يحبب إلينا قول " لاَ أَدْرِي "
و أن لا نخاصم مبتدعا و أن لا نجالسا مُحْدِثاً و أن لا نتكلم في دين الله
تكلفا. قال جلَّ و علا ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ
تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) - [الأعراف 33]
فتأمل كيف جعل الله تعالى القول عليه بغير علم فوق الشرك به.
هذا
و صل اللهم على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق