الثلاثاء، 2 سبتمبر 2014

مَا أَنْتِ ؟ قَالَتْ : أَنَا الدُّنْيَا

الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و بعد،



فإنا لله و إنا إليه راجعون

يقول الله جل و علا ( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَ الْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَ ازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) - [يونس 24]


قال الطبري في " تفسيره ":
 حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا)، الآية: أي والله، لئن تشبَّثَ بالدنيا وحَدِب عليها، لتوشك الدنيا أن تلفظه وتقضي منه. اهـ



و قال رحمه الله عند قوله تعالى :
 ( وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَ كَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ) - [الكهف 45]

" يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أصلا، ولمن قام بوراثته بعده تبعا:
اضرب للناس مثل الحياة الدنيا ليتصوروها حق التصور، ويعرفوا ظاهرها وباطنها، فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية، ويؤثروا أيهما أولى بالإيثار. وأن مثل هذه الحياة الدنيا، كمثل المطر، ينزل على الأرض، فيختلط نباتها، تنبت من كل زوج بهيج، فبينا زهرتها وزخرفها تسر الناظرين، وتفرح المتفرجين، وتأخذ بعيون الغافلين، إذ أصبحت هشيما تذروه الرياح، فذهب ذلك النبات الناضر، والزهر الزاهر، والمنظر البهي، فأصبحت الأرض غبراء ترابا، قد انحرف عنها النظر، وصدف عنها البصر، وأوحشت القلب، كذلك هذه الدنيا، بينما صاحبها قد أعجب بشبابه، وفاق فيها على أقرانه وأترابه، وحصل درهمها ودينارها، واقتطف من لذته أزهارها، وخاض في الشهوات في جميع أوقاته، وظن أنه لا يزال فيها سائر أيامه، إذ أصابه الموت أو التلف لماله، فذهب عنه سروره، وزالت لذته وحبوره، واستوحش قلبه من الآلام وفارق شبابه وقوته وماله، وانفرد بصالح، أو سيئ أعماله، هنالك يعض الظالم على يديه، حين يعلم حقيقة ما هو عليه، ويتمنى العود إلى الدنيا، لا ليستكمل الشهوات، بل ليستدرك ما فرط منه من الغفلات، بالتوبة والأعمال الصالحات، فالعاقل الجازم الموفق، يعرض على نفسه هذه الحالة، ويقول لنفسه: قدري أنك قد مت، ولا بد أن تموتي، فأي: الحالتين تختارين؟ الاغترار بزخرف هذه الدار، والتمتع بها كتمتع الأنعام السارحة، أم العمل، لدار أكلها دائم وظلها، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين؟ فبهذا يعرف توفيق العبد من خذلانه، وربحه من خسرانه." اهـ



إذا زال الزخرف و هو الذهب كما في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه (1) انحرف النظر، وصدف البصر، واستوحش القلب.



يقول ابن أبي شيبة في " المصنف " بسند صحيح:
حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ زِيَادٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ : رَأَيْت فِي النَّوْمِ كَأَنِّي أَرَى عَجُوزًا عَوِرًا كَبِيرَةَ الْعَيْنِ وَالْأُخْرَى قَدْ كَادَتْ أَنْ تَذْهَبَ. عَلَيْهَا مِنْ الزَّبَرْجَدِ وَالْحِلْيَةِ شَيْءٌ عَجَبٌ ، فَقُلْت : مَا أَنْتِ ؟ قَالَتْ : أَنَا الدُّنْيَا ، فَقُلْت : أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّك ، قَالَتْ : فَإِنْ سَرَّك أَنْ يُعِيذَك اللَّهُ مِنْ شَرِّي فَأَبْغِضْ الدِّرْهَمَ .

و هذا تشبيه نفيس للدنيا.


فالمرأة عجوز إحدى عينيها كبيرة و الأخرى كادت أن تذهب من يرغب فيها ؟؟؟ و لكن الحلي و الزبرجد أعمى الناظرين إليها و دَجَلَ (2) عُيوبها، فأَكبُّوا عليها.


يقول ابن أبي الدنيا في " الزهد " :
28 ثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، قَالَ : ثنا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ ، قَالَ : ثنا عَوْفٌ ، عَنْ أَوْفَى بْنِ دَلْهَمٍ ، عَنْ الْعَلاءِ ، قَالَ : " رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ عَجُوزًا كَبِيرَةً مُتَغْضَنَةَ الْجِلْدِ ، عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ زِينَةِ الدُّنْيَا ، وَالنَّاسُ عُكُوفٌ عَلَيْهَا ، مُتَعَجِّبُونَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا ، فَجِئْتُ فَنَظَرْتُ فَعَجِبْتُ مِنْ نِظَرِهِمْ إِلَيْهَا ، وَإِقْبَالِهِمْ عَلَيْهَا ، فَقُلْتُ لَهَا : وَيْلَكِ مَنْ أَنْتِ ؟ قَالَتْ : أَوَمَا تَعْرِفُنِي ؟ قُلْتُ : لا ، مَا أَدْرِي مَا أَنْتِ ؟ قَالَتْ : فَإِنِّي أَنَا الدُّنْيَا . قَالَ : قُلْتُ : أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّكِ . قَالَتْ : فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تُعَاذَ مِنْ شَرِّي فَابْغُضِ الدِّرْهَمَ " .
(( أوفى بن دلهم وثقه النسائي و قال ابن حجر صدوق ))



و كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول لأصحابه و أمته من بعده
" اتقوا الدنيا و اتقوا النساء "




فإذا جاء الموت نزعت العجوز زينتها و كشفت عن حقيقتها فقال المتمسك بها ( رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ) و لكن هيهات.





يقول أبو نعيم في " الحلية ":
حدثنا أبو حامد محمد بن إسحاق ، ثنا حاتم بن الليث ، ثنا قبيصة ، حدثنا سفيان ، عن محمد بن سعيد قال : كَانَ مِنْ دُعَاءِ طَاوُس :" اللَّهُمَّ احْرِمْنِي كَثْرَةَ المَالِ وَالوَلَدِ وَارْزُقْنِي الإِيمَانَ وَالعَمَلَ ".


و هذا صحيح عن الإمام طاوس رحمه الله. و هو الذي ينفع المرأ إذا دخل قبره.




فقد خرج البخاري في صحيحه 6149 :
حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم سمع أنس بن مالك يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يَتْبَعُ المَيِّتَ ثَلاَثَة فَيَرْجِعُ اثْنَان وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِد، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ ".




و هذا كلام للحسن البصري رحمه الله، يحتاج منا وقفة

يقول ابن أبي شيبة في " المصنف " :
حَدَّثَنَا عَفَّانَ قَالَ حَدَّثَنَا زُرَيْك بْنُ أَبِي زُرَيْك قَالَ : سَمِعْت الْحَسَنَ وَهُوَ يَقُولُ :
" يَا ابْنَ آدَمَ ، إنَّك نَاظِرٌ إلَى عَمَلِك فَزِدْ خَيْرَهُ وَشَرَّهُ ، وَلَا تُحَقِّرْ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ وَإِنْ هُوَ صَغُرَ ، فَإِنَّك إذَا رَأَيْتَهُ سَرَّك مَكَانَهُ ، وَلَا تُحَقِّرْ شَيْئًا مِنْ الشَّرِّ فَإِنَّك إذَا رَأَيْته سَاءَك مَكَانَهُ ، رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا كَسَبَ طَيِّبًا وَأَنْفَقَ قَصْدًا وَوَجَّهَ فَضْلًا ، وَجِّهُوا هَذِهِ الْفُضُولَ حَيْثُ وَجَّهَهَا اللَّهُ ، وَضَعُوهَا حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا أَنْ تُوضَعَ ، فَإِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَشْتَرُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْفَضْلِ مِنْ اللَّهِ ، وَإِنَّ هَذَا الْمَوْتَ قَدْ أَضَرَّ بِالدُّنْيَا فَفَضَحَهَا ، فَوَاَللَّهِ مَا وُجِدَ بَعْدُ ذُو لُبٍّ فَرِحًا ".اهـ







اللهم نسألك أن نستقيم.



هذا و صل اللهم على نبينا محمد و على آله و صحبه  و سلم.
_____________
1 – يقول الطبري في " تفسيره " : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى ، قَالَ : ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ، قَالَ : ثَنَا شُعْبَةُ ، عَنِ الْحَكَمِ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : لَمْ أَدْرِ مَا الزُّخْرُفُ ، حَتَّى سَمِعْنَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : " بَيْتٌ مِنْ ذَهَبٍ " 

2 – جاء في " المعجم الوسيط " دَجَلَ دَجَلَ ُ دَجْلاً : كذب ومَوّه وادَّعى ، فهو داجل ، ودَجّال . والجمع : دَجاجِلة . و دَجَلَ الشيءَ : غطَّاه . " اهـ


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق