الحمد
لله و الصلاة و السلام على رسول الله و بعد
يقول ابن القيم في "الداء و الدواء":
" ... و عَلَّمَ سبحانه عباده كيفية هذه الحرب و الجهاد، فجمعها
لهم في أربع كلمات فقال {يا أيها الذين آمنوا اصبروا و صابروا و رابطوا و اتقوا الله
لعلكم تفلحون}. و لا يتم أمر هذا الجهاد إلا بهذه الأمور الأربع: فلا يتم له الصبر
إلا بمصابرة العدو و هي مقاومته و منازلته، فإذا صابر عدوه احتاج إلى أمر آخر و هو
المرابطة، و هي لزوم ثغر القلب و حراصته لئلا يدخل معه العدو، و الثغر هو الموضع الذي
يخاف هجوم العدو منه، و لزوم ثغر العين و اللسان و البطن و اليد و الرجل، فهذه الثغور
منها يدخل العدو، فيجوس خلال الديار و يفسد ما قُدِّرَ أن يقدر عليه. "
و الذي
يهم في موضوعنا ثغر الأذن لأنه المُعَوَّلُ عليه في إفساد القلب
يقول
ابن القيم:
ثم
امنعوا [يعني إبليس يقول لأعوانه] ثغر الأذن أن يدخل منه ما يفسد عليكم الأمر، فاجتهدوا
ألا تدخلوا منه إلا الباطل، فإنه خفيف على النفس تستحليه و تستحسنه، تخيروا له أعذب
الألفاظ و أسحرها للألباب و امزجوه بما تهوى النفس مزجى، و ألقوا الكلمة فإن رأيتم
منه إصغاءً إليه، فزجوه بأخواتها و كلما صادفتم منه استحسان شيئ فالهجوا له بذكره،
و إياكم أن يدخل من هذا الثغر شيئ من كلام الله أو كلام رسوله أو كلام النصحاء. فإن
غلبتم على ذلك و دخل من ذلك شيئ -يعني من كلام الله أو كلام رسوله أو كلام النصحاء - فحولوا بينه و بين فهمه و التفكر فيه و العظة به، إما بادخال ضده عليه وإما بتهويل
ذلك و تعظيمه و أن هذا أمر قد حيل بين النفوس و بينه فلا سبيل لها إليه و هو حمل يتقل
عليها لا تستقل به. و إما بإرخاصه على النفوس، و أن الإشتغال ينبغي أن يكون بما هو
أغلى عند الناس و أعزُّ عليهم و أغرب عندهم، و ذُهُونُهُ القابلون له أكثر، و أما الحق
فهو مهجور و قائله معرض نفسه للعداوة و الرابح بين الناس أولى بالإيثار و نحو ذلك.
فتُدخلون الباطل عليه في كل قالب يقبله و يخف عليه، و تُخرجون له الحق في كل قالب يكرهه
و يثقل عليه ". اهـ
و هذا
كلام جليل ينبغي الوقوف عنده.
و هذه
بعض الوقفات التي اجتمعت عندي فيما يخص الغناء و المزامير
[ الغناء سبب للضلالة ]
قال
جل و علا ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي
لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) [لقمان]
قال
الطبري في "تفسيره":
حَدَّثَنَا
بِشْرٌ قَالَ : ثَنَا يَزِيدُ قَالَ : ثَنَا سَعِيدٌ ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ :
( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ ) وَاللَّهِ لَعَلَّهُ أَنْ لَا يُنْفِقَ فِيهِ مَالًا ، وَلَكِنِ
اشْتِرَاؤُهُ اسْتِحْبَابُهُ ، بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنَ الضَّلَالَةِ أَنْ يَخْتَارَ
حَدِيثَ الْبَاطِلِ عَلَى حَدِيثِ الْحَقِّ ، وَمَا يَضُرُّ عَلَى مَا يَنْفَعُ .
و قال
:
حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ : ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ : ثَنَا عِيسَى ، وَحَدَّثَنِي
الْحَارِثُ قَالَ : ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ : ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ
الْحَدِيثِ ) قَالَ : الْمُغَنِّي وَالْمُغَنِّيَةُ بِالْمَالِ الْكَثِيرِ ، أَوِ اسْتِمَاعٌ
إِلَيْهِ ، أَوْ إِلَى مَثْلِهِ مِنَ الْبَاطِلِ .
يقول
أبو جعفر الطبري:
وَقَوْلُهُ
: ( لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) يَقُولُ : لِيَصُدَّ ذَلِكَ الَّذِي يَشْتَرِي
مِنْ لَهْوِ الْحَدِيثِ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ ، وَمَا يُقَرِّبُ إِلَيْهِ
مِنْ قِرَاءَةِ قُرْآنٍ وَذِكْرِ اللَّهِ .
و هذا
شبيه بما صنعته الصوفية لما أحدثوا التغبير ليصدوا به الناس عن القرآن.
[ كلام ابن قيم على أثر ابن مسعود : " الغناء يُنبت النفاق في
القلب " ]
يقول
ابن القيم في " إغاثة اللهفان ":
فإن
قيل : فما وجه إنباته للنفاق في القلب من بين سائر المعاصي .
قيل
: هذا من أدلّ شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها
وأنهم هم أطباء القلوب دون المنحرفين عن طريقتهم الذين داووا أمراض القلوب بأعظم أدوائها
فكانوا كالمداوي من السقم بالسم القاتل ، وهكذا والله فعلوا بكثير من الأدوية التي
ركبوها أو بأكثرها فاتفق قلة الأطباء وكثرة المرضى وحدوث أمراض مزمنة لم تكن في السلف
. والعدول عن الدواء النافع الذي ركّبه الشارع وميل المريض إلى ما يقوي مادة المرض
فاشتد البلاء وتفاقم الأمر وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى ، وقام كل جهول
يطبب الناس .
فاعلم
أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق ونباته فيه كنبات الزرع بالماء .
فمن
خواصِّـه :
أنه
يلهي القلب ويصدّه عن فهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه . فإن القرآن والغناء لا يجتمعان
في القلب أبداً لما بينهما من التضاد . فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى ، ويأمر بالعفة
، ومجانبة شهوات النفوس ، وأسباب الغيّ ، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان .
والغناء
يأمر بضد ذلك كله ويحسِّـنه ويهيّج النفوس إلى شهوات الغيّ ، فيُثير كامنها ويزعج قاطنها
، ويحركها إلى كل قبيح ، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح ... وهو جاسوس القلب ، وسارق
المروءة ، وسوس العقل . يتغلغل في مكامن القلوب ، ويطلع على سرائر الأفئدة ، ويدب إلى
محل التخيل فيُثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة والرعونة والحماقة .
فبينا ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل وبهجة الإيمان ووقار الإسلام وحلاوة
القرآن ، فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقله وقلّ حياؤه وذهبت مروءته وفارقه بهاؤه
وتخلى عنه وقاره وفرح به شيطانه .اهـ
[ المزمار صوت الشيطان ]
يقول
معمر بن راشد في جامعه 1121:
عَنْ
قَتَادَةَ ، قَالَ : " لَمَّا أُهْبِطَ إِبْلِيسُ قَالَ : أَيْ رَبِّ ! قَدْ لَعَنْتَهُ
فَمَا عَمَلُهُ ؟ قَالَ : السِّحْرُ ، قَالَ : فَمَا قِرَاءَتُهُ ؟ قَالَ : الشِّعْرُ
، قَالَ : فَمَا كِتَابُهُ ؟ قَالَ : الْوَشْمُ ، قَالَ : فَمَا طَعَامُهُ ؟ قَالَ
: كُلُّ مَيْتَةٍ وَمَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، قَالَ : فَمَا شَرَابُهُ
؟ قَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ ، قَالَ : فَأَيْنَ مَسْكَنُهُ ؟ قَالَ : الْحَمَّامُ ، قَالَ
: فَأَيْنَ مَجْلِسُهُ ؟ قَالَ : الأَسْوَاقُ.
قَالَ
: فَمَا صَوْتُهُ ؟ قَالَ : الْمِزْمَارُ ، قَالَ : فَمَا مَصَايِدُهُ ؟ قَالَ : النِّسَاءُ
" .
و قال
الطبري في "تفسيره":
حدثني
ابن زهير، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا داود، يعني ابن أَبي الفرات، قال: ثنا
علباء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: تلا هذه الآية (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ
الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى) قال: كان فيما بين نوح وإدريس، وكانت ألف سنة، وإن بطنين
من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل، والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صباحا، وفي
النساء دمامة، وكان نساء السهل صباحا، وفي الرجال دمامة، وإن إبليس أتى رجلا من أهل
السهل في صورة غلام، فأجر نفسه منه، وكان يخدمه، واتخذ إبليس شيئا مثل ذلك الذي يزمر
فيه الرعاء، فجاء فيه بصوت لم يسمع مثله، فبلغ ذلك من حولهم، فانتابوهم يسمعون إليه،
واتخذوا عيدا يجتمعون إليه في السنة، فتتبرج الرجال للنساء، قال: ويتزين النساء للرجال،
وإن رجلا من أهل الجبل هجم عليهم وهم في عيدهم ذلك، فرأى النساء، فأتي أصحابه فأخبرهم
بذلك، فتحولوا إليهن، فنـزلوا معهن، فظهرت الفاحشة فيهن، فهو قول الله (وَلا تَبَرَّجْنَ
تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى) .
و التبرج
بمعنى الظهور لا العري !
فكيف
إذا جمع في مكان واحد غناء ماجن و مزامير و عري و دعوة إلى الفاحشة !
[ قول الأئمة مالك و الشافعي و أحمد في الغناء]
- قال عبد الله بن أحمد في " العلل 1081 ":
حَدثنِي أبي قَالَ حَدثنَا إِسْحَاق الطباع قَالَ: سَأَلت مَالك بن أنس عَمَّا يترخص فِيهِ بعض أهل الْمَدِينَة من الْغناء؟ فَقَالَ: إِنَّمَا يَفْعَله عندنَا الْفُسَّاق.
- قال الخلال في "الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر 194 ":
[ قول الأئمة مالك و الشافعي و أحمد في الغناء]
- قال عبد الله بن أحمد في " العلل 1081 ":
حَدثنِي أبي قَالَ حَدثنَا إِسْحَاق الطباع قَالَ: سَأَلت مَالك بن أنس عَمَّا يترخص فِيهِ بعض أهل الْمَدِينَة من الْغناء؟ فَقَالَ: إِنَّمَا يَفْعَله عندنَا الْفُسَّاق.
- قال الخلال في "الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر 194 ":
وَأَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ الْمُقْرِئُ الْبَزَّارُ ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْحَرُورِيُّ ، قَالَ : سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِدْرِيسَ يَقُولُ : " تَرَكْتُ فِي الْعِرَاقِ شَيْئًا يُقَالُ لَهُ: التَّغْبِيرُ أَحْدَثَهُ الزَّنَادِقَةُ، يَصُدُّونَ بِهِ النَّاسَ عَنِ الْقُرْآنِ " .
- قال عبد الله في " العلل 1097 ":
سَأَلْتُ أَبِي عَنِ الْغِنَاءِ فَقَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّه:ِ الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ المَاء البقل وَالزَّرْع.
- قال عبد الله في " العلل 1097 ":
سَأَلْتُ أَبِي عَنِ الْغِنَاءِ فَقَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّه:ِ الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ المَاء البقل وَالزَّرْع.
[ جزاء من نزه نفسه و سمعه عن الغناء و عن المزامير ]
يقول
ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة 264 " :
حَدَّثَنِي
دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو الضَّبِّيُّ ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ ، عَنْ مَالِكِ
بْنِ أَنَسٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ ، قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ
نَادَى مُنَادٍ : أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يُنَزِّهُونَ أَنْفُسَهُمْ ، وَأَسْمَاعَهُمْ
، عَنْ مَجَالِسِ اللَّهْوِ ، ومَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ ، أَسْكِنُوهُمْ رِيَاضَ الْمِسْكِ
، ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ : أَسْمِعُوهُمْ تَحْمِيدِي وَتَمْجِيدِي.
و قال
أبو نعيم في " الحلية ":
حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، قَالَ : ثَنَا عبد الله بن سليمان لبن الأشعث ، قَالَ :
ثَنَا عباس بن الوليد ، قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبِي ، قَالَ : ثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ
، عَنْ يحيى فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : ( فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ) قَالَ :هُوَ
السَّمَاعُ ، فَإِذَا أَخَذَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي السَّمَاعِ لَمْ يَبْقَ فِي الْجَنَّةِ
شَجَرَةٌ إِلَّا وَرَدَّتْ .
فشتان
بين سماع أهل الدنيا و بين سماع أهل الجنة.
و لو وقر اليقين في القلوب لتغيرت أحوالنا
يقول ابن أبي شيبة في مصنفه 35966 :
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ ، عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : كُنَّا مَعَ أَبِي مُوسَى فِي منزله فَسَمِعَ النَّاسَ يَتَكَلَّمُونَ فَسَمِعَ فَصَاحَةً وَبَلاَغَةً ، قَالَ : فَقَالَ : يَا أَنَسُ ، هَلُمَّ فَلْنَذْكُرَ اللَّهَ سَاعَةً ، فَإِنَّ هَؤُلاَءِ يَكَادُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَفْرِيَ الأَدِيمَ بِلِسَانِهِ ، ثُمَّ قَالَ : يَا أَنَسُ ، مَا ثَبَّطَ النَّاسَ عَنِ الآخِرَةِ مَا ثَبَّطَهُمْ عنها ؟ قَالَ : قُلْتُ : الدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتُ ، قَالَ : لاَ ، وَلَكِنْ غُيِّبَتِ الآخِرَةُ وَعُجِّلَتِ الدُّنْيَا ، وَلَوْ عَايَنُوا مَا عَدَلُوا بَيْنَهُمَا ، وَلاَ مَيَّلُوا.
هذا
و صل اللهم على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق