السبت، 31 مايو 2014

بَابٌ فِي الإِيمَانِ بِالصِّفَاتِ

الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و بعد،



فإن أهل السنة و الجماعة، يعرفون ربهم بصفاته الواردة في القرآن و صحيح السنة، و يصفون ربهم بما وصف به نفسه، و بما وصفه به رسوله صلّى الله عليه و على آله وسلم. و لا يحرفون الكلم عن مواضعه، و لا يلحدون في أسمائه وآياته، و يثبتون لله ما أثبته لنفسه من غير تمثيل، و لا تكييف و لا تعطيل، و لا تحريف. 


و قاعدتهم في كل ذلك قول الله - تبارك و تعالى -:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) - [الشورى  11].


و هذا نص نفيس للإمام ابن القيم في بيان هذا الباب العظيم من أبواب الدين

قال رحمه الله تعالى كما في مدارج السالكين (3 /332 - 335):
 " فالإيمان بالصفات، و معرفتها، و إثبات حقائقها، و تعلق القلب بها، و شهوده لها، هو مبدأ الطريق ووسطه و غايته، وهو روح السالكين و حاديهم إلى الوصول، و محرك عزماتهم إذا فتروا، و مثير هممهم إذا قصروا، فإن سيرهم إنما هو على الشواهد، فمن لا شاهد له لا سير له و لا طلب و لا سلوك.

و أعظم الشواهد شواهد صفات محبوبهم و نهاية مطلوبهم، و ذلك هو العَلَمُ الذي رفع لهم في السير فشمروا إليه، كما [قالت عائشة](1): "من رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد رآه غاديا رائحا، لم يضع لبنة على لبنة، و لكن رفع له علم فشمر إليه".

و لا يزال العبد في التواني و الفتور و الكسل، حتى يرفع الله عز و جل له بفضله و منّه علما يشاهده بقلبه فيشمر إليه و يعمل عليه. فإذا عطلت شواهد الصفات، و وضعت أعلامها من القلوب، و طمست آثارها فيها، ضربت بسياط البعد، و أسبل دونها حجاب الطرد، و تخلفت مع المتخلفين، و أوحي إليها أن اقعدي مع القاعدين.

فإن أوصاف المدعو إليه، و نعوت كماله، و حقائق أسمائه، هي الحادية للقلوب إلى محبته، و طلب الوصول إليه، لأن القلوب إنما تحب من تعرفه، و تخافه، و ترجوه، وتشتاق إليه، و تلتذ بقربه، و تطمئن إلى ذكره، بحسب معرفتها بصفاته. فإذا ضرب دونها حجاب معرفة الصفات و الإقرار بها؛ امتنع منها بعد ذلك ما هو مشروط بالمعرفة و ملزوم لها؛ إذ وجود الملزوم بدون لازمه و المشروط بدون شرطه ممتنع.


فحقيقة المحبة و الإنابة و التوكل و مقام الإحسان، ممتنع على المعطل امتناع حصول المَغَلّ من مُعَطِّلِ البذر، بل أعظم امتناعا. و كيف تأله القلوب من لا يسمع كلامها، و لا يرى مكانها، و لا يُحِبُّ و لا يُحَب، و لا يقوم به فعل البتة، و لا يتكلم و لا يكلم، و لا يقرب من شيء و لا يقرب منه شيء، و لا يقوم به رحمة و لا رأفة و لا حنان، و لا له حكمة و لا غاية يفعل و يأمر لأجلها ؟!

فكيف يتصور التوكل على ذلك، و محبته، و الإنابة إليه، و الشوق إلى لقائه، و رؤية وجهه الكريم في جنات النعيم، و هو غير مستو على عرشه فوق جميع خلقه ؟!

أم كيف تأله القلوب من لا يُحِبُّ و لا يُحَب، و لا يرضى و لا يغضب، و لا يفرح ولا يضحك ؟!

فسبحان من حال بين المعطلة و بين محبته، ومعرفته، و السرور و الفرح به، و الشوق إلى لقائه، و انتظار لذة النظر إلى وجهه الكريم، و التمتع بخطابه في محل كرامته و دار ثوابه.

و لو رآها أهلا لذلك، لمنّ عليها به و أكرمها به؛ إذ ذاك أعظم كرامة يكرم بها عبده و الله أعلم حيث يجعل كرامته و يضع نعمته ( وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ الله عَلَيْهِم مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِين ) - [الأنعام 53]، ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) - [الأنعام 124]، ( أهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) - [الزخرف 32].

و ليس جحودهم صفاته سبحانه و حقائق أسمائه في الحقيقة تنزيها، إنما هو حجاب ضرب عليهم فظنوه تنزيها، كما ضرب حجاب الشرك و البدع المضلة و الشهوات المردية على قلوب أصحابها، و زين لهم سوء أعمالهم فرأوها حسنة " اهـ.


عطلوا صفات ربهم فتعطل بصرهم، فأنَّا يرون الطريق إليه جل و علا !!!
يقول سبحانه و تعالى ( فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ).



هذا و صل اللّهم على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم.
_________
1 – الذي وقفت عليه أنه من كلام الحسن البصري رحمه الله كما في " حلية الأولياء " لأبي نعيم. و الله أعلم.

هناك تعليقان (2):

  1. جزاك الله خيرا
    لكن لو أضفت أن الله يوصف أيضا بما وصفه به الصحابة و التابعون
    قال أحمد بن حنبل رحمة الله عليه في رسالة إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان كما في السنة للخلال : وهذا الذي أذهب إليه ولست بصاحب كلام ولا أرى الكلام في شئ إلا ما كان في كتاب الله أو حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أصابه رحمهم الله أو عن التابعين فأما غير ذلك فالكلام فيه غير محمود
    وفقك الله

    ردحذف
  2. بارك الله فيك أخ حمزة تنبيهك مهم، لم أستحضر هذا الأمر عند كتابة المقال.

    و بالمناسبة فهاتين صفتين لله جل في علاه ( الإستنارة و الإستياء ) لم يسبق لي أن سمعت أحدا ذكرهما - و الله أعلم -، من كلام أبي ذر الغفاري جندب بن عبد الله رضي الله عنه.

    يقول معمر بن راشد في جامعه
    893 : عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ ، عَنْ أَبِي الْعَلاءِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : " ثَلاثَةٌ يَسْتَنِيرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ : رَجُلٌ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ وَتَرَكَ فِرَاشَهُ وَدِفَاءَهُ ، ثُمَّ قَامَ يَتَوَضَّأُ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاةِ ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْمَلائِكَةِ : مَا حَمَلَ عَبْدِي عَلَى هَذَا أَوْ عَلَى مَا صَنَعَ ؟ فَيَقُولُونَ : أَنْتَ أَعْلَمُ ، فَيَقُولُ : أَنَا أَعْلَمُ وَلَكِنْ أَخْبِرُونِي ، فَيَقُولُونَ : خَوَّفْتَهُ شَيْئًا فَخَافَهُ ، وَرَجَّيْتَهُ شَيْئًا فَرَجَاهُ ، قَالَ : فَيَقُولُ : فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَمَّنْتُهُ مِمَّا خَافَ ، وَأَعْطَيْتُهُ مَا رَجَا ، وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ ، فَلَقِيَ الْعَدُوَّ فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ ، وَثَبَتَ حَتَّى قُتِلَ أَوْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْمَلائِكَةِ : مَا حَمَلَ عَبْدِي عَلَى هَذَا ، أَوْ عَلَى مَا صَنَعَ ؟ فَيَقُولُونَ : أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ ، فَيَقُولُ : أَنَا أَعْلَمُ بِهِ ، وَلَكِنْ أَخْبِرُونِي ، فَيَقُولُونَ : خَوَّفْتَهُ شَيْئًا فَخَافَهُ ، وَرَجَّيْتَهُ شَيْئًا فَرَجَاهُ ، قَالَ : فَيَقُولُ : أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَمَّنْتُهُ مِمَّا خَافَ ، وَأَعْطَيْتُهُ مَا رَجَا ، وَرَجُلٌ أَسْرَى لَيْلَةً حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ نَزَلَ . . . فَنَامَ أَصْحَابُهُ ، فَقَامَ هُوَ يُصَلِّي ، قَالَ : فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمَلائِكَةِ : مَا حَمَلَ عَبْدِي عَلَى هَذَا ، أَوْ عَلَى مَا صَنَعَ ؟ فَيَقُولُونَ : رَبِّ أَنْتَ أَعْلَمُ ، فَيَقُولُ : أَنَا أَعْلَمُ وَلَكِنْ أَخْبِرُونِي ، قَالَ : فَيَقُولُونَ : خَوَّفْتَهُ شَيْئًا فَخَافَهُ ، وَرَجَّيْتَهُ شَيْئًا فَرَجَاهُ ، قَالَ : فَيَقُولُ : فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَمَّنْتُهُ مِمَّا خَافَ وَأَعْطَيْتُهُ مَا رَجَا " .


    و قال 896:
    عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ ، عَنْ أَبِي الْعَلاءِ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : " ثَلاثَةٌ يَسْتَاءُ بِهِمُ اللَّهُ : شَيْخٌ زَانٍ ، وَفَقِيرٌ مُخْتَالٌ ، وَذُو سُلْطَانٍ كَذَّابٌ ، أَوْ غَنِيُّ ظَلُومٌ " شَكَّ مَعْمَرٌ .

    و سعيد هو ابن إياس أبو مسعود الجريري ثقة اختلط في آخر عمره . و قال أبو داود : " كل من أدرك أيوب فسماعه من الجريري جيد " اهـ


    جزيت خيرا أخي

    ردحذف